حلف الأطلسي والولايات المتحدة… علاقة تميزت بالعديد من الأزمات
حلف الأطلسي والولايات المتحدة… علاقة تميزت بالعديد من الأزمات
يبدو حلف شمال الأطلسي هشًا أكثر من أي وقت مضى، وذلك إثر التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب التي هدد فيها بعدم ضمان حماية دول الناتو ضد روسيا، في حالة عودته إلى البيت الأبيض. بيد أن هذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها العلاقات بين دول الحلف – الذي تأسس في عام 1949- والولايات المتحدة للتوتر.
نشرت في:
8 دقائق
يعود الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ليزرع التوتر مرة أخرى على ساحة العلاقات الدولية، من خلال التشكيك في مبدأ التضامن الذي يحكم حلف شمال الأطلسي (الناتو). ففي 11 فبراير/شباط الجاري، وخلال مسيرة انتخابية في ولاية ساوث كارولينا، قام الرئيس الجمهوري السابق الذي يترشح مجددا للانتخابات الرئاسية الأمريكية بتوبيخ الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي لعدم تمويل المنظمة بشكل كاف، وألمح إلى أن بلاده لن تحمي حلفاءها حال وقوع هجوم روسي.
اقرأ أيضاتصريحات ترامب بشأن احتمال التخلي عن دعم حلف شمال الأطلسي تثير جدلا وانتقادات حادة
وتسببت تصريحات ترامب في قلق شديد بين الدول الأوروبية. منذ تأسيسه في عام 1949، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لم تكن هذه الأزمة الأولى التي تواجه الناتو الذي تميزت علاقته في كثير من الأحيان بالاضطراب مع الولايات المتحدة. وكما تذكرنا جيني رافليك، أستاذة التاريخ المعاصر في جامعة نانت الفرنسية، فإن فكرة هذا التحالف لم تنبثق في الواقع من على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي.
“فقد كانت أولا وقبل كل شيء ناتجة عن إرادة الفرنسيين والبريطانيين لأنهم كانوا يخشون أن تبتعد الولايات المتحدة كثيرا عن أوروبا. فقد أعاد الأمريكيون قواتهم إلى الوطن، بينما لم يغادر الروس الأراضي التي وضعوا أيديهم عليها. وكان هناك خوف حقيقي من أن تواصل روسيا هجماتها”، كما تقول هذه المتخصصة في العلاقات الدولية. وتضيف “في ذلك الوقت، لم يرغب الأمريكيون كثيرا في أن يظلوا في أوروبا لفترة طويلة. أما في السياق الحالي، فمن المثير للاهتمام أن نرى أنهم كانوا يطلبون بالفعل من الأوروبيين الالتزام حقا بالدفاع عن أنفسهم”.
أخيرا، وعلى الرغم من هذه الهواجس، أدى أول تفجير لقنبلة ذرية سوفياتية في سبتمبر/أيلول 1949 واندلاع الحرب في شبه الجزيرة الكورية إلى تسريع إنشاء الهيكل العسكري المتكامل لحلف الناتو. في سياق بدايات الحرب الباردة تمثل دور الناتو – على حد تعبير أمينه العام الأول، اللورد إسماي – في “إبقاء الروس في الخارج والأمريكيين في الداخل والألمان تحت الوصاية”.
“العمود الفقري لحلف الناتو”
احتلت الولايات المتحدة تدريجيا الدور القيادي في هذا التحالف. “لقد أصبح الأمريكيون العمود الفقري لحلف الناتو لأن أوروبا كانت تفتقر للموارد وبخاصة المالية والمادية والصناعية منها. فكان أول ما تم عمله في مرحلة ما بعد الحرب هو تعبئة أوروبا لإعادة الإعمار والتحديث. تشرح جيني رافليك بالقول: “سرعان ما انخرطت العديد من الدول الأوروبية في عملية إنهاء الاستعمار، مثل فرنسا وهولندا وبريطانيا العظمى”.
وبسرعة كبيرة، بدأ التحالف بالمرور في لحظات من التوتر. في أوج الحرب في الهند الصينية، طلبت فرنسا من حلفائها تمويل جهودها العسكرية تحت مظلة حلف شمال الأطلسي. “فبدأ الأمريكيون بتزويدهم بالأسلحة شريطة أن يكون لهم رأي في كيفية استخدامها. استهجن الفرنسيون التدخل الأمريكي في شؤونهم العسكرية”، كما تقول المؤرخة. “وهذا مثال عن حالات سوء الفهم التي نجدها باستمرار بين الأمريكيين والأوروبيين. فالأمريكيون يمولون ويتوقعون أن يكون لهم وزن حاسم في تطوير الاستراتيجية العسكرية”.
بعد الحرب الباردة
مع سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1989، فقد الناتو خصمه الطبيعي، لكن وجود التحالف لم يكن محل تساؤل. “فكرة انتهاء التحالف لم تدم طويلا. وكان ينظر إلى إبقاء الأمريكيين في القارة الأوروبية على أنه شيء مطمئن. لقد اختفى التهديد السوفياتي، لكن التهديد الروسي ظل بارزا في عقليات العديد من بلدان القارة العجوز”، حسب تحليل جيني رافليك. “ومع ذلك، كان هناك فك ارتباط تدريجي من قبل الأمريكيين مع الأراضي الأوروبية بعد إغلاقهم للعديد من القواعد العسكرية. ولم تعد أوروبا حقا في قلب مخاوف الجغرافيا السياسية الأمريكية، كما كانت في بدايات الحرب الباردة”.
ومن المفارقات أنه بعد انتهاء المواجهة بين الكتلتين الغربية والشرقية، بدأ الناتو في القيام بعملياته العسكرية الأولى. في عام 1999، قصف صربيا خلال حرب كوسوفو. “استغرق الأمر طويلا حتى نهاية الحرب الباردة لحلف شمال الأطلسي من أجل التحرك. لقد كان هذا أول اختبار للحكم على إمكانات التحالف العسكرية وقدرة الحلفاء على العمل معا”، تؤكد جيني رافليك.
بعد سنتين، بدأ العالم في التأرجح داخل حقبة جديدة بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول على الأراضي الأمريكية. ولأول مرة في تاريخه، يُفعِّل الناتو المادة 5 من معاهدة واشنطن التي تنص على أن جميع أعضاء التحالف يجب أن يقوموا بمساعدة أي عضو منهم يتعرض لهجوم. ثم قام الناتو بعدها بأول عملياته في إطار مكافحة الإرهاب، لا سيما في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي. لكن العمليات العسكرية واسعة النطاق للولايات المتحدة تتم خارج إطار المنظمة، كما تقول جيني رافليك: “فدور الحلف بات هامشيا ولا يمكن اللجوء إليه. فالأمريكيون يفضلون آلية تحالف دولي تحت قيادتهم وتحت تفويض من الأمم المتحدة حتى يكون لديهم مساحة أكبر من المناورة”.
منظمة “عفا عليها الزمن”
منذ أوائل عام 2010، تواجه المنظمة توترات متجددة. فالتهديدات التي تواجه كل عضو فيها مختلفة عن بعضها والأولويات ليست بالضرورة هي نفسها بين الحلفاء، ووفقا للمؤرخة: “انقسم الناتو بين أولئك الذين كانوا مهووسين بالروس وأولئك الذين كانوا مهووسين بالإرهاب. فدافع الجميع عن مصالحهم وعاشوا في واقعهم الجيوسياسي الخاص بهم. وهو ما أضعف التحالف بشدة”.
اقرأ أيضاترامب يهدد بتشجيع موسكو على مهاجمة دول الناتو التي لا تفي بالتزاماتها المالية
في عام 2017، وحتى قبل انتخابه رئيسا للولايات المتحدة، هاجم دونالد ترامب المنظمة قائلا بأنه عفا عليها الزمن “لأنها لم تتعامل مع الإرهاب”، وموجهًا لدولها اللوم لعدم دفع نصيبها من الدفاع المشترك. بعد عامين من هذا التاريخ، ضرب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مسمارًا آخر في جسد التحالف بتصريحه أن الناتو قد دخل في حالة “موت دماغي”.
ولكن منذ بداية الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، يبدو وكأن التحالف قد عاد إلى الحياة من جديد. فالعدو الأصلي قد عاد مرة أخرى، وقدم للتحالف فرصة لم الشمل والاجتماع حول مصلحة واحدة. “لا يوجد شيء أقوى للتحالف من النظر في نفس الاتجاه ونحو نفس التهديد. هناك عودة إلى جوهر التحالف بهذه النظرة الجديدة إلى الشرق”، تلخص جيني رافليك. لكن هذا التعزيز الجديد لدور الحلف قوضته التصريحات الأخيرة لدونالد ترامب بخصوص روسيا. كما هو حال عام 2017، تسبب المرشح الجمهوري في مشاكل جديدة من خلال الادعاء بأن القليل فقط من دول الحلف دفعت ما ينبغي عليها دفعه. “الخطر القائم في وجه التحالف الآن هو أنه يظهر نقاط ضعفه علانية مما يقوض من مصداقيته. إن ذلك أمر جيد وعظيم للروس الذين يرون الغربيين يمزقون بعضهم البعض”.
لكن رافليك تقلل من وقع هذه الكلمات. فهي تذكر أنه قبل سبع سنوات، تراجع ترامب عن تصريحاته. فبمجرد انتخابه رئيسا، عاد وقال إن الناتو لم يعف عليه الزمن وأنه “حصن للسلام الدولي”. وحتى لو عاد الملياردير الأمريكي إلى المكتب البيضاوي، فهو لن يشكك في وجود التحالف لأن: “هناك ضمانات، وخاصة في الكونغرس الأمريكي. الولايات المتحدة دولة ديمقراطية وترامب لن يفعل ما يريد. بالإضافة إلى ذلك، افتتح الناتو قبل بضع سنوات مقرا جديدا كلفه ملايين الدولارات. وهذا معناه أن وقت الإغلاق لم يحن بعد. فهو يمكن أن يتطور، لكنه لن يختفي”.
النص الفرنسي: ستيفاني ترويار | النص العربي: حسين عمارة
حلف الأطلسي والولايات المتحدة… علاقة تميزت بالعديد من الأزمات